فصل: تفسير الآيات (101- 103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (91- 96):

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)}
قلت: {وقد جعلتم}: حال، و{أنكاثًا}: حال من الغزل، وهو: جمع نِكْث- بالكسر- بمعنى منكوث، أي: منقوض. و{أن تكون}: مفعول من أجله، و{تتخذون}: جملة حالية من ضمير {تكونوا}.
يقول الحقّ جلّ جلالة: {وأوفوا بعهد الله}؛ كالبيعة للرسول- عليه الصلاة والسلام- وللأمراء، والأيمان، والنذور، وغيرها، {إذا عاهدتم} الله على شيء من ذلك، {ولا تَنقضوا الأيمان}؛ أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان، {بعد توكيدها}؛ بعد توثيقها بذكر الله، أو صفته، أو أسمائه، {وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً}؛ شاهدًا ورقيبًا، بتلك البيعة؛ فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه، {إن الله يعلم ما تفعلون} في نقض الأيمان والعهود. وهو تهديد لمن ينقض العهد، وهذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في الحديث.
{ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غزلها}: أفسدته {من بعد قوة} أي: إبرام وإحكام؛ {أنكاثًا} أي: طاقات، أي: صيرته طاقات كما كان قبل الغزل، بحيث حلت إحكامه وإبرامه، حتى صار كما كان، والمراد: تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه، وقيل: هي ريطة بنت سعد القرشية؛ فإنها كانت خرقاء- أي: حمقاء- تغزل طول يومها ثم تنقضه، فكانت العرب تضرب به المثل لمن قال ولم يُوف، أو حلف ولم يَبر في يمينه. {تتخذون أيمانكم دخلا بينكم} أي: لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم. وأصل الدخل: ما يدخل الشيء، ولم يكن منه، يقال: فيه الدخل والدغل، وهو قصد الخديعة.
تفعلون ذلك النقض؛ لأجل {أن تكون أُمةٌ هي أربى من أمةٍ}: بأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً، من جماعة أخرى، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية؛ لكثرتها. نزلت في العرب، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها، غدرت الأولى، وحالفت الثانية. وقيل: الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش؛ إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش.
{إنما يبلوكم}: يختبركم {اللهُ به}؛ بما أمر من الوفاء بالعهد؛ لينظر المطيع منكم والعاصي. أو: بكون أمة هي أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تَغْتَرُّونَ بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم؟ {وليُبَيننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} في الدنيا؛ حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب. {ولو شاء اللهُ لجعلكم أمةً واحدة}؛ أهل دين واحد متفقين على الإسلام، {ولكن يُضل من يشاء} بعدله، {ويهدي من يشاء} بفضله، {ولتُسألنَّ يوم القيامة}؛ سؤال تبكيت ومجازاة، {عما كنتم تعملون} في الدنيا؛ لتُجازوا عليه.
{ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بينكم}، كرره؛ تأكيدًا؛ مبالغة في قبح المنهي عنه من نقض العهود، {فتزِلَّ قدمٌ} عن محجة الإسلام {بعد ثُبوتها}: استقامتها عليه، والمراد: أقدامهم، وإنما وُحد ونُكِّر؛ للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ {وتذوقوا السُّوءَ}: العذاب في الدنيا {بما صددتم عن سبيل الله} أي: بصدكم عن الوفاء بعهد الله، أو بصدكم غيركم عنه؛ فإن من نقض البيعة، وارتد، جعل ذلك سُنَّة لغيره، {ولكم عذابٌ عظيم} في الآخرة.
{ولا تشتروا بعهد الله} أي: لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذكم {ثمنًا قليلاً}: عرضًا يسيرًا من الدنيا، بأن تنقضوا العهد لأجله. قيل: هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين، ويشترطون لهم على الارتداد، {إِنَّما عند الله} من النصر والعز، وأخذ الغنائم في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، {هو خيرٌ لكم} مما يعدونكم، {إن كنتم تعلمون} ذلك فلا تنقضوا، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
{ما عندكم} من أعْرَاضِ الدنيا {يَنْفَذُ}؛ ينقضي ويفنى، {وما عند الله} من خزائن رحمته، وجزيل نعمته {باقٍ} لا يفنى، وهو تعليل للنهي عن نقض العهد؛ طمعًا في العَرَضِ الفاني، {وليجزين الذين صبروا} على الوفاء بالعهود، أو على الفاقات وأذى الكفار، أو مشاق التكاليف، {أجرهم بأحسنِ ما كانوا يعملون} بما يرجح فعله من أعمالهم، كالواجبات والمندوبات، أو بجزاء أحسن من أعمالهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين: فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (97):

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {مَن عَمِلَ صالحًا}؛ بأن صحبه الإخلاص، وتوفرت فيه شروط القبول، {من ذَكَرٍ أو أنثى وهو مؤمن}؛ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب، {فلنحيينَّهُ حياة طيبةً} في الدنيا، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية. قال البيضاوي: يعيش عيشًا طيبًا، فإنه، إن كان موسرًا، فظاهر، وإن كان معسرًا يطيبُ عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة، وتوقع الأجر العظيم، بخلاف الكافر، فإنه، إن كان معسرًا فظاهر، وإن كان موسرًا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه، وقيل: في الآخرة، أي: في الجنة. اهـ. {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} من الطاعة، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن. وبالله التوفيق.
الإشارة: الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد؛ حيث انقطعت عنهم الشواغل في الظاهر، والعلائق في الباطن، فاطمأنت قلوبهم بالله، وسكنت أرواحهم في حضرة الله، وتحققت أسرارهم بشهود الله، فدام سرورهم، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية، كما قال ابن الفارض في مدحها:
وإنْ خَطَرَتْ يومًا على خاطرِ امرئٍ ** أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ

هذا في الخطور، فما بالك بالسكون ودوام الحضور؟ وقال أيضًا في شأنها:
فما سكنَتْ والهمّ يومًا بموضع ** كذلك لا يسكُنْ مع النَّغَم الغَم

وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم؛ لرسوخ قدمهم في مقام الإحسان، وسكونهم في جنة العرفان، فَهَبَّ عليهم نسيم الرضا والرضوان، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء. والحاصل: أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان، فيقلبون الشرِّيات خيريات، والمعاصي طاعات، والإساءة إحسانًا، والجلال جمالاً... وهكذا، فأَنَّى تغير قلوبَ هؤلاء الأكدارُ؟ وأنى تنزل بساحتهم الأغيارُ، وهم في حضرة الكريم الغفار؟ نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم، آمين.

.تفسير الآيات (98- 100):

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فإِذا قرأتَ القرآنَ}؛ أردت قراءته، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المَائدة: 6]، {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} أي: فسل الله أن يعيذك من وسواسه؛ لئلا يوسوسك في القراءة، فيحرمك حلاوة التلاوة؛ فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدًا، والجمهور على أنه مستحق عند التلاوة، وعن عطاء: أنه واجب. ومذهب مالك: أنه لا يتعوذ في الصلاة. وعند الشافعي وأبي حنيفة: يتعوذ في كل ركعة؛ تمسكًا بظاهر الآية؛ لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة في ترك التعوذ في الصلاة. وهو تابع للقراءة في السر والجهر، وعن ابن مسعود: قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال: «قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
ثم قال تعالى: {إِنه ليس له سلطانٌ} أي: تسلط وولاية {على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} أي: لا تسلط له على أولياء الله المؤمنين به، والمتوكلين عليه، فإنهم لا يطيعون أوامره، ولا يصغون إلى وساوسه، إلا فيما يحتقر، على ندور وغفلة. {إِنما سلطانه} أي: تَسَلُّطُهُ {على الذين يتولونه}: يحبونه ويطيعونه، {والذين هم به} أي: بالله، أو: بسبب الشيطان، {مشركون}؛ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه.
الإشارة: الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي: الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى: {ففروا إِلَى الله} [الذَّاريات: 50]. فإن الشيطان كالكلب، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك، فإما أن يخرق الثياب، أو يقطع الإهاب، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو، فاتتك محبة الحبيب، ونال مراده منك. اهـ.
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان، ثم بالقلب، ثم بالروح، ثم بالسر، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط، أو يذعن له ويسلم شيطانه، فإنما حركه عليك؛ ليوحشك إليه. وفي الحكم: (إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده). فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ...} [فَاطِر: 6] الآية. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (101- 103):

{وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}
قلت: {والله أعلمُ بما يُنزَّل}: معترض بين الشرط، وهو: {إذا} وجوابه، وهو: {قالوا}؛ لتوبيخ الكفار، والتنبيه على فساد سندهم. و{هدى وبشرى}: عطف على: {ليُثبت}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ}؛ بأن نسخنا الأولى؛ لفظًا أو حكمًا، وجعلنا الثانية مكانها، {والله أعلم بما يُنزّل} من المصالح، فلعل ما يكون في وقت، يصير مفسدة بعده، فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ، يكون مصلحة الآن، فيثبته مكانه. فإذا نسخ، لهذه المصلحة، {قالوا} أي: الكفرة: {إِنما أنت مُفتَر}: كذاب مُتَقوِّل على الله، تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، قال تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون} حكمة النسخ ولا حقيقة القرآن، ولا يميزون الخطأ من الصواب.
{قل نزّله روحُ القُدُس} يعني: جبريل. والقدس: الطهر والتنزيه؛ لأنه روح مُنزه عن لوث البشرية. نزله {من ربك} ملتبسًا {بالحق}: بالحكمة الباهرة، أو مع الحق في أمره ونهيه وإخباره، أو أنزله حقًا، {ليُثَبتَ الذين آمنوا} على الإيمان؛ لأنه كلام الله، ولأنهم إذا سمعوا الناسخ والمنسوخ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح، رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم. {و} أنزله {هدىً وبُشرى للمسلمين} المنقادين لأحكامه، أي: نزله؛ تثبيتًا وهداية وبشارة للمسلمين.
{ولقد نعلم أنهم يقولون إِنما يُعلِّمِه بَشَرٌ} يعنون: غلامًا نصرانيًا اسمه: جبَر، وقيل: يعيش. قيل: كانا غلامين، اسم أحدهما: جبَر، والآخر يَسارٌ، وكانا يصنعان السيوف، ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما، ويدعوهما إلى الإسلام، فقالت قريش: هذان هما اللذان يعلمان محمدًا ما يقول. قال تعالى في الرد عليهم: {لسانُ الذي يُلحدون إِليه أعجمي} أي: لغة الرجل الذي يُمِيلُون قولَهم عن الاستقامة إليه، وينسبون إليه تعليم القرآن، أعجمي، {وهذا} القرآن {لسانٌ عربي مبين}؛ ذو بيان وفصاحة. قال البيضاوي: والجملتان مستأنفتان؛ لإبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون،- أي: القرآن- ما تلقفه منه؟ وثانيهما: هب أنه تلقف منه المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقف منه اللفظ؛ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن، كما هو معجز باعتبار المعنى، معجز باعتبار اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف يعلم جميع ذلك من غلام سُوقي، سمع منه، بعض أوقات، كليمات عجمية، لعله لم يعرف معناها؟! فطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم. اهـ.
الإشارة: كما وقع النسخ في وحي أحكام، يقع في وحي إلهام؛ فقد يتجلى في قلب الولي شيء من الأخبار الغيبية، أو يأمر بشيء يليق، في الوقت، بالتربية، ثم يُخبر أو يأمر بخلافه؛ لوقوع النسخ أو المحو، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب، فيطعن أن يشك، فيكون ذلك قدحًا في بصيرته، وإخمادًا لنور سريرته، إن كان داخلاً تحت تربيته. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (104- 109):

{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)}
قلت: {من كفر}: شرطية مبتدأ، وكذلك {من شرح}. و{فعليهم غضب}: جواب عن الأولى والثانية؛ لأنهما بمعنى واحد، ويكون جوابًا للثانية، وجواب الأولى: محذوف يدل عليه جواب الثانية. وقيل: {من كفر}: بدل من {الذين لا يؤمنون}، أو من المبتدأ في قوله: {أولئك هم الكاذبون}، أو من الخبر. و{إلا من أكره}: استئناف من قوله: {من كفر}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِنَّ الذين لا يؤمنون}؛ لا يُصدِّقون {بآيات الله}، ويقولون: هي من عند غيره، {لا يهديهم الله} إلى سبيل النجاة، أو إلى اتباع الحق، أو إلى الجنة. {ولهم عذاب أليم} في الآخرة. وهذا في قوم عَلِمَ أَنهم لا يؤمنون، كقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]. وقال ابن عطية: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله. ولكنه قدَّم وأخر؛ تهممًا بتقبيح أفعالهم. اهـ.
قال البيضاوي: هددهم على كفرهم، بعد ما أماط شبهتهم، ورد طعنهم فيه، ثم قلب الأمر عليهم، فقال: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله}؛ لأنهم لا يخافون عذابًا يردعهم عنه، {وأولئك هم الكاذبون} على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب؛ لأن تكذيب آيات الله، والطعن فيها، بهذه الخرافات أعظم الكذب. وأولئك الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة. أو الكاذبون في قولهم: {إنما أنت مفتر}، {إِنما يعلمه بشر}. اهـ. والكلام كله مع كفار قريش.
ثم ذكر حكم مَن ارتد عن الإيمان؛ طوعًا أو كرهًا، فقال: {من كفر بالله من بعد إِيمانه} فعليهم غضب من الله، {إِلا مَن أُكْرِه} على التلفظ بالكفر، أو على الافتراء على الله، {وقلبُه مطمئن بالإِيمان}؛ لم تتغير عقيدته، {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} أي: فتحه ووسعه، فاعتقده، وطابت به نفسه، {فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم}؛ إذ لا أعظم من جرمه.
رُوِيَ أن قريشًا أكرهوا عمّارًا وأبويه- وهما ياسر وسمية- على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين، وطعنوها بحربة في قلبها، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال، فماتت- رحمة الله عليها- وقتلوا ياسرًا زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام. وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا؛ مُكرهًا، فقيل: يا رسول الله؛ إن عمارًا كفر، فقال: «كَلا، إن عَمَّارًا مُلئ إيمَانًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ، واخْتَلَطَ الإِيمَانُ بلَحْمِهِ ودَمِهِ» فَأَتَى عمَّار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْكي، فَجَعَلَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَيْنَيْه، ويقول: «مَا لك، إِنْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ بِما قُلْتَ».
وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه. وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه، إعزازًا للدين، كما فعل أبواه.
لما رُوي أنَّ مسيلمة أخذ رجلين، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. وقال: ما تقول فيَّ؟ فقال: أنت أيضًا، فخلى سبيله، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله، فقال: ما تقول فيَّ؟ فقال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الآخر فقد صدع بالحق، فهنيئًا له». اهـ. قاله البيضاوي.
قال ابن جزي: وهذا الحكم فيمن أكره على النُطق بالكفر، وأما الإكراه على فعل وهو كفر، كالسجود للصنم، فاختلف؛ هل يجوز الإجابة إليه أو لا؟ فأجازه الجمهور، ومنعه قوم. وكذلك قال مالك: لا يلزم المكره يمين، ولا طلاق، ولا عتاق، ولا شيء فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز له الإجابة إليه؛ كالإكراه على قتل أحدٍ أو أخذ ماله. اهـ. وذكر ابن عطية أنواعًا من الأمور المكره بها، فذكر عن مالك: أن القيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه، وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي، وإنفاذه فيما يتوعد به. ثم ذكر خلافًا في الحنث في حق من حلف؛ للدرء عن ماله، لظالم، بخلاف الدرء عن النفس والبدن، فإنه لا يحنث، قولاً واحدًا، إلا إذا تبرع باليمين، ففي لزومه خلاف. وانظر المختصر في الطلاق.
ثم علل نزول العذاب بهم، فقال: {ذلك} الوعيد {بأنهم استحبُّوا الحياةَ الدنيا على الآخرة} أي: بسبب أنهم آثروها عليها، {وأنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين}، الذين سبق لهم الشقاء، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان في قلوبهم، ولا يعصمهم من الزيغ. {أولئك الذين طَبَعَ اللهُ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم}؛ فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه، {وأولئك هم الغافلون} الكاملون في الغفلة، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل في العواقب. {لا جَرَمَ}: لا شك {أنهم في الآخرة هم الخاسرون}؛ حيث ضيعوا أعمارهم، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد. قاله البيضاوي.
الإشارة: من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففي التحقيق: ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان في عداد المريدين السالكين، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين، {فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، أي: بالتصديق بطريق الخصوص، وهو مصمم على الرجوع إليها؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه، ما يُرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية، ثم أنهضته العناية، ففرّ إلى الله، التحق بأولياء الله، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم، وطال مقامه مع العوام، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص، والتحق بأقبح العوام، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء، فلعله يحشر معهم، ودرجته مع العوام.
قال القشيري: إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه، وإِخلاصَه في عَقْدِه، ثم لحقته ضرورة في حاله، خَفَّفَ عنه حُكْمَه، ورفع عنه عناءهَ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر؛ مُكْرَهًا، وهو بالتوحيد محقق، عُذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم، وتجردوا لسلوك طريق الله، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ، فاتفقت لهم أعذارٌ، فنفذ ما يوجبه الحال، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله. اهـ.
قلت: هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ، ملازمين لهم، أو واصلين إليهم، وأما إن تركوا الصحبة، أو الوصول، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية.
ثم قال في قوله: {ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا}: من رجع باختياره، ووضع قدَمًا في غير طريق الله، بحُكْمِ هواه، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ، إلى أن تتداركه الرحمة. اهـ. قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي، ما نصه: وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد: فإن اختلفت الأشكال، وتراكمت الفتن والهوال، وتصدعت الأحوال، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا، فيكون معه قصور في جانب الحق، لا في جانب الحقيقة، فلا يضر، إن رجع في ذلك لمولاه؛ فرارًا، وإلى ربه؛ اضطرارًا. {ففروا إلى الله}. اهـ.